بدأ ياقوت الحموي في تحرير معجم البلدان عام 612 هـ عندما كان بمرو ، ثم ما لبث أن انصرف عنه تحت وطأة هجمات جنكيز خان ، ولما استقرَّ به المقام في الموصل عاد إليه ، فأتمه عام 621هـ، وقد تميَّز ياقوت بعنايته بضبط أكثر ما أورده من الأعلام الجغرافية ، فأعان ذلك على صحة قراءتها ، ومن هنا غدا مرجعه من أوثق المصادر في هذا المضمار .
أما عن سبب تأليفه لهذا المعجم أنه كان ذا يوم في مجلس صاحب مرو وأميرها ، وذُكِرَتْ كلمة (حباشة)، فذكر البعض أنها بالفتح ، وذكرها آخرون بالضم ، وكان هذا رأي ياقوت ، وأراد أن يتثبت من صحة مقولته ، فانطلق يبحث عنها بين الكتب ، فكان ذلك حافزًا له إلى هذا العمل الموسوعي العظيم . وتظهر أهمية هذا الكتاب في عرضه لآراء ونظريات العلماء الذين يذكرهم بصورة واضحة ومنهجية سليمة ، مع كون هذه النظريات متناقضة أو مختلفة فيما بينها .
أما عن منهجه فيعد منهجًا فريدا ؛ لأنه جمع بين اللغة والتاريخ والجغرافيا ، ففي كل فقرة مخصصة لاسم مكان يقوم ياقوت أولاً بتثبيت شكل كتابته ولفظه ، واشتقاق الكلمة ، وأشكال النسبة التي قد تُشتق منها -فقه اللغة- وبعدئذ يتوصَّل إلى تفاصيل موضع المكان : كدرجة عرضه ، وطوله ، ويذكر عند الكلام عن منطقة واسعة، خصائص طبيعتها ، ومواردها الطبيعية ، وعمرانها بالناس ، وموجزًا لأهم الأحداث التي شهدها هذا المكان -الناحية الجغرافية التاريخية .
وقد فاق الجانب اللغوي الجانب الجغرافي في أجزاء كثيرة من الكتاب ، ولعلَّ ذلك راجع إلى نشأته اللغوية وتشبعه منها ، مع كونه لم يكن عربيًّا ، كما نلاحظ أن اللغة غلبت كذلك على وصفه الجغرافي في أحيان كثيرة . كما نلاحظ أن ياقوت ألف كتابه على حروف المعجم ، ولكنه يضطر -إذا نقصت بعض المعلومات- إلى إغفال ذكر عدد من التفاصيل ، غير أن هذا المعجم رغم ذلك من أفضل مصادر المعلومات التي نملكها ، خاصة إذا عرفنا أنه لا يقتصر على وصف الأماكن الواقعة في جزيرة العرب ، بل يشتمل على وصف كل العالم الذي عرفه المسلمون . ويتميز ياقوت الحموي عن الكثير من المؤلفين من أبناء عصره بملكة النقد ، التي تظهر عندما يروي بعض الأساطير الذائعة في عصره ، وفي حكمه على تلك الأساطير والتعليل لها .
فيقول ياقوت عن مادة (جاسك) : ‘جاسك بفتح السين المهملة، وآخره كاف: جزيرة كبيرة بين جزيرة قيس -هي المعروفة بكيش- وعُمان قبالة مدينة هرمز ، بينها وبين قيس ثلاثة أيام ، وفيها مساكن وعمارات ، يسكنها جند ملك جزيرة قيس ، وهم رجال أجلاد أَكْفاء ، لهم صبر وخبرة بالحرب في البحر وعلاجٌ للسفن والمراكب ليس لغيرهم ، وسمعت غير واحد من جزيرة قيس يقول : أُهدي إلى بعض الملوك جوارٍ من الهند في مراكب ، فرفأت تلك المراكب إلى هذه الجزيرة ، فخرجت الجواري يتفسَّحنَ ، فاختطفهنَّ الجنُّ وافترشهنَّ فولدن هؤلاء الذين بها .
يقولون هذا لِمَا يرون فيهم من الجَلَدِ الذي يعجز عنه غيرهم ، ولقد حُدِّثْتُ أن الرجل منهم يسبح في البحر أيامًا ، وأنه يجالد بالسيف وهو يسبح مجالدة من هو على الأرض’ . ويُعتبر كتابه ‘معجم البلدان’ موسوعة جغرافية كبيرة، فقد جمع فيه ياقوت الحموي كل ما يتعلق بما يؤرخ له ، من التاريخ والأخبار ووصف الأقاليم ، ويذكر عظماء البلدة وشعراءها ورجال الدين فيها ، كما يحاول ذِكْرَ سني ولادتهم ووفاتهم ، فكان كتابًا فريدًا في بابه ونظمه ، وقد ألفه على حروف الهجاء .
ويجدر بنا أن نقدم بعضا من النماذج التي أوردها ياقوت الحموي في كتابة ؛ لندلل على عمق النظرة وبلاغة الوصف ودقة التعبير وسعة العلم والفقه ، يقول في باب الهمزة والألف وما يليها:’ آبر بفتح الهمزة وسكون الألف وضم الباء الموحدة وراء ، قرية من قرى سجستان ينسب إليها أبو الحسن محمد بن الحسين بن إبراهيم بن عاصم الآبري شيخ من أئمة الحديث ، له كتاب نفيس كبير في أخبار الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه ، أجاد فيه كل الإجادة ، وكان رحل إلى مصر والشام والحجاز والعراق وخراسان ، وكان يعد في الحفاظ، وذكر الفراء أنه توفي في رجب سنة 363 هـ’ .